جواميس

Mohamed Makhzangi

Photograph by Laura Blight

"الجاموس حيوان عظيم لا ينام البتة، ولعله في  بعض أوقات الليل يغمض جفنه، زعموا أن في دماغه دودة تتحرك دائما لا تخليه ينام، ويدفع السباع عن نفسه، ويقتل التمساح مع عظم بدنه، ولذلك يسرحون الجواميس على طرف النيل. والجاموس يمشي إلى الأسد، وهو ثابت الجنان وليس له إلا قرنه، وليس في قرنه حدة، فضلا عن حدة أطراف مخالب الأسد وأنيابها، ويغلب الأسد قالوا: إنما يغلب الجاموس الأسد؛ لأنه يذب الأسد عن نفسه والأسد يريد أن يجعله طعاما له."
(القزويني – عجائب المخلوقات)

القتلى: تسعة من البشر/ وعشر جواميس/ وخمسة عشر من الخراف والماعز، وعدد كبير لم يتم تحديده من الدواجن/ التي لم تكن بينها الأرانب لأسباب لم يتوقف أحد لتفسيرها، وفي غير الأرواح، احترقت سبعة دور أتت النيران على اثنتين منها تماماً، ودُمَّرت ثلاثة حوانيت للبقالة، انهارت ثماني واجهات لبيوت طينية، وتساقطت كل أسوار الأجران، أما أكوام الروث وأكداس التبن، فقد نُثرت كالغبار في سماء القرية كلها بعد منتصف الليل، ولم تهدأ إلا عند الفجر حيث هبطت هبوطاً وئيداً، لتغطي الدور، والبشر الذين هدهم التعب، وروعتهم الجائحة، وكانوا يبكون بعيون جافة، وبلا نحيب على ضحاياهم الذين شرعوا يهيئونهم للدفن في الصباح، رجلان أحدهما في الثلاثين والثاني تجاوز الثمانين، وامرأتان في منتصف العمر، إحداهما حامل في شهرها التاسع، وخمسة أطفال، تتراوح أعمارهم بين الستة الأشهر والأحد عشر عاماً.
الأضواء: أضواء مصابيح النيون بدأت انتشارها الكاسح في ليل القرية منذ عشرين عاما، منذ راحت محطة تقوية الإرسال الإذاعي تبث موجاتها من المبنى الصغير، الحديث المحاط بالأسوار على طريق الرئيسي أمام القرية. العمال الذين تم توظيفهم في المحطة من أبناء القرية كانوا عمالل زراعيين معدمين، لا يملكون ولا يستأجرون أرضاً يزرعوانها، ويكتريهم من يمتلكون الأرض أو يستأجرونها للعمل لديهم في المواسم، هؤلاء نقلوا الاكتشاف إلى القرية بعد أن التقطوا سره من المهندسين والفنيين في المحطة، فهموا أن هناك موجات قوية ترسلها هوائيات المحطة، لتحمل على ظهرها موجات البث، التي ضعفت بعد قطعها لكل تلك المسافة، آتية من مبنى الإذاعة في العاصمة البعيدة، وأطلقوا على تلك الموجات تاحاملة اسم "الحمير،" لقوتها وجلدها وصبرها على تحمل موجات البث المنهكة، وإيصالها حتى شاطئ البحر. ثم إن هذه الموجات (الحمير)، وهي تنطلق في دروب الهواء عابرة سماء القرية، كانت تعفِّر في الجو كهرباء تكفي لإشعال مصابيح "النيون" المستهلكة، التي لم يتبق فيها إلا القليل من بخار الزئبق الذي تعجز عن جعله يتوهج كهرباء الأسلاك، و"ترانسات" التيار، ونوابض "الاستارتر" المعتادة.
زحف الأضواء: تراكمت على مدي العشرين سنة أضواء النيون، التي لم تكن مصابيحها التالفة تكلف شيئاً لتتوهج، بلا توصيلات كهربائية، وبلا تجهيزات إلا مجرد تعليقها على الحيطان، وقرب الأسقف، وفوق الأسوار/ وبين أغصان الشجر، ولم تكن خيوط تعليقها إلا مما تيسر، نسالات الأجولة، ومزق الثياب المهترئة، أو حتى خيوط التيل وأفرع اللبلاب.
مزيد من التوهج: منذ سنة، أو أقل قليلاً، أو أكثر قليلاً، أخذت أضواء القرية تتوهج في الليل زيادة؛ حتى أمست القرية من أكثر بقاع العالم إضاءة، إن لم تكن أكثرها على الإطلاق، وكأن لياليها صارت نهارات تضيئها شموس عديدة. فانتشار مصابيح توفير الطاقة "داي لايت" في مدن البلاد، أخذ يحيل مصابيح النيون—حتى وهي في كامل قوتها—إلى الاتيداع المبكر، وتكاثرت على القرية مصابيح النيون السليمة دون مقابل يُذْكر، وكانت هذه لا تحتاج إلى التعليق حتى تصل كهرباء جو القرية إلى أقطابها، وتشعل ما بها من غاز وفير، مجرد وجودها ملقاة بطرفين مكشوفين كان كفيلاً بجعلها تتوهج بقوة، على أرض الشوارع والأزقة، وفوق الأسوار والأسطح، وفي حظائر البهائم، وداخل عشش الدجاج، وعلى جسور الترع، وفي كل الحقول.
لم يكن التغيُّر مفاجئاً: حدث ما ظل يحدث عبر عقدين من الزمان، وإن تزايدت وتائره، وتضخمت ملامحه مع الوقت، فالمحاصيل المغمورة بنور الشمس في النهار/ وأضواء النيون في المساء كانت تنمو أسرع، وأكبر، وأطول، وأوفر، وإن فقدت طعومها المألوفة. الأبقار صارت تأكل ليلاً ونهاراً دون توقف، حتى اقتربت من أحجام الفيلة/ وكانت تعطي حليباً غزيراً خفيفاً، لكن نسلها صار شديد الضعف، يهلك معظمه في الأيام الأولى عقب الولادة. أما البشر فكانوا يزدادون ضخامة في الأبدان، ويميلون إلى الترهل والرخاوة في الحركة، تحوّل نومهم إلى أغفاءات متقطعة ومتواصلة على مدار اليوم، وخلال الليل المتوهج بالأضواء. لم يعودوا يؤوبون إلى مهاجعهمم في المساء، ليغطسوا في جب النوم، حتى الصباح الباكر كأيامهم الخوالي، بل صاروا يتمددون على المصاطب، وفوق الأسطح، وتحت الشجر، ليغفوا قليلاً في أوقات مختلفة، ويفيقوا جوعي متثائبين ليأكلوا، ويعملوا قليلاً، ثم يعاودون التمدد كلما ثقلت أجفانهم.
ليلة الجائحة: قيل إن شدة التيار تزايدت فجأة في محولات المحطة، وقيل إن ذلك لم يحدث، لكن الشائع هو أن سطوعاً غير عادي حدث لأضواء النيون، التي تغمر القرية ومحيطها من الحقول، حتى إن البوم غفا من فوره على أغصان الجميز، وفوق الأسوار، فكان يتساقط في ارتطامات صماء على الأرض، والخفافيش آبت إلى أسقف الخرابات، وحناياها، ولطت بها كأنها طلقات لزجة تلتصق بأهدافها. تزايد طنين النحل، وعلت صوصأة العصافير التي اضطرب تحليقها، وتصاعدت جلبة غير معهودة في عشش الدجاج، وأبراج الحمام، وضجت الزرائب.
في الدقيقة الثلاثين بعد منتصف الليل: ضربات هائلة مكتومة أخذت تُطيِّر أبواب الزرائب، وتبقر حيطانها الطينية، وانطلقت من الأبواب المنهارة، وفجوات الحيطان جواميس القرية، كل الجواميس، كأن شيطاناً ناداها جميعا في لحظة واحدة، وراحت تنخرط في قطيع متلاطم، يندفع بجنون أعمى في شارع "داير الناحية" الذي يخترق القرية من أقصاها إلى أقصاها، وعندما بلغ القطيع المندفع نهاية الشارع الطويل، وجد أمامه جسر المصرف الخشبي القديم، الذي سرعان ما انهار تحت ثقل البهائم، وشدة لطمات أظلافها.
عقب انهيار الجسر: هوت عدة جواميس في مياه المصرف، وارتج القطيع الهائج، بينما راحت صدمة التوقف المفاجئ تسري في جسم الرحام المتخبط، تمشطه من البداية حتى النهاية، وبدأت الأخطام والقرون تستدير وتتشابك، فتتناطح، وتَحوّل القطيع الكبير إلى شراذم قطعان ملتاثة، تجري في كل اتجاه وحيثما تألق ضوء هنا أو هناك، كانت الجواميس المندفعة تصوب رؤوسها إلى كل مكان عُلِّق فيه أو أُلقي به مصباح نيون، وعندما كان يعْسُر عليها النيل من مصباح في مكان مغلق، كانت تواصل نطح الجُدران أو الأبواب أو الأسوار، بل أخذت تجوس في الأزقة وتقتحم الدور؛ بحثا عن ذلك الضوء الأبيض المتوهج لتخمده، بقرونها، وأطلافها، وأخطامها، وأكفالها. كانت تضرب انبعاثات ذلك الضوء الأبيض، بكل كياناتها الثقيلة الهائجة، ثم أخذت الأضواء تتراجع فيما كانت الحرائق تشتعل، والغبار يتطاير، والبشر يصرخون، والدواجن والماشية تحاول الفرار، لكن الدهس تواصل. ولما وضح أن الغاية كانت تلك الأضواء البيضاء، سارع الناس يحطمون كل ما تطوله أياديهم وأقدامهم من مصابيح، حتى انطفأت القرية تماما، وراحت القطعان تتجه نحو ما تبقى من أضواء بيضاء، تتلامع في اتساع الحقول.