ثلاث قصائد

منى كريم

أبراكادابرا

ينتابني الخوف أحياناً

أغمض عيناي وأبطئ من حركة أنفاسي

أذكر نفسي بالكلمتين السحريتين:
"الآن + هنا"
الآن: اليوم الخميس ١٠ مارس
هنا: شقتي في بوسطن

أبدأ بعّد محتويات جسدي:
رأس، عينان، كتفان،
بطن ذات مرتفع خافت،
فخذان، ساقان، أصابع غريبة الأطوال

كل شيء سليم وفي مكانه

أتفحص المكان من حولي:
المرنطية ترفع يديها ببطء
باتجاه القمر، تزيح جزء من ياقتها
إلى اليمين، وتضرب باليد الأخرى
على صدرها
تماماً كما كانت تفعل جدتي
وهي تغوي قمر بن هاشم

أحدق في السجادة المليئة بالمثلثات
أتابع كيف يترابط الواحد بالآخر
أو بالآخرين. لكل مثلث
عدة مثلثات مجاورة. لكل منهم
ضلعاً نبت من جسد الآخر وسيموت معه.
أتيه في عالمهم الغريب
أتخيل أني أسير في شارع مثلثي
ذات مساء جميل وهادئ
لا أركز في تفاصيل ما أرتديه
أو حتى في الألوان التي تظهر

مشهد بالكاد تتحدد خطوطه
لكن رأسي تظهر فيه

وبالرغم من أني أتبختر
على الأرجح قاصدة مكاناً يبعث فيّ السعادة
إلا أن الخوف لايزال معي
في جيب بنطلوني الذي لا أعرف لونه
يخرج منه مثل جني

مرة يستحيل رجلاً يخيفني بكلمتين
فأرد عليه بكلمات أكبر وألسع
تجعل منه محط سخرية المثلثات
التي بكركراتها فقط يهدأ روعي

ومرة يستحيل وحشاً
أقتله بعشرين طلقة
أو أكون قد نسيت مسدسي
فأكر عنقه بأظافري
أو أكون قد قصقصتها صباحاً
فأقطعه بأسناني
تنغرس في جسده
كالأشواك

مرات أصل منهكة
إلى الشارع المثلثي
أتجاهل الرجل كثير الكلام
وحين أرى الوحش
أتحرك بخطوات ثابتة
إلى الناصية الأخرى

حتى لو لم أقرر الآن عد المثلثات
كنت سأعد مكعبات الأرضية في المتجر
ولتخيلت ظهور مخلوقات أخرى
تتوعدني وتدفعني لأن أكون العنقاء تارة
والغول تارة أخرى

كثيراً ما أنجح بإنقاذ نفسي
أركض أركض أركض
حتى نهاية العالم
أو أقف بشجاعة
لأخلص عليهم بدم بارد

دائماً ما ينتهي المشهد على ذات المنوال:
جسدي يتصبب عرقاً
ودمائهم لا أثر لها
في مسرح الجريمة


 
الكلمات لا تأتي

الكلمات لم تعد تأت، بنفسي صرت أذهب إليها. أتصل بها، أشاهد صورها على الانستغرام، أنثر قلب حب بعد ولادة كل منها بثوان. المنشورات والميمات التي تشاركها لم تعد تحمل رسائل مشفرة لي. لست قارئها المفضل، قارئها الأمثل، قارئها الشبيه. بطّلت تـ@ني في فيديو ضاحك، رقصة ممتازة، أو نص ثوري. أتفرج كيف تقضي أيامها من دوني، تذهب في تمشية صباحية تبعدها أكثر عني، أحياناً تقطع المسافة على دراجة، أو يأخذها شخص جديد بسيارته إلى الميناء- على الأرجح روائي متعسر.

هو أيضاً ستهجره، مزاجية وخلقها ضيق. إن لم تصمد مع شاعرة نثر، كيف لها أن تتحمل العيش مع تسع شخصيات من ثلاثة أجيال تتوزع في قارات أربع بين حربين وعلى وشك الثالثة؟ سينتهي به الأمر معي في ذات النفق. ثم ستستبدله بكاتب تجريبي يمزج بين جنيس وآخر. تجعله يشعر بأنه خاص جداً، بل استثنائي حتى، حب حياتها الأول والأخير، ستعطيه كتب كيلطيو وتسهر معه الليالي تحدثه كيف أن العرب اخترعوا الجنس لا المؤلف، وأن المؤلف هرطقة غربية، أن المؤلف لابد أن يموت، بأجناسه بتجريبه، كله على بعضه يموت. ستتركه عالقاً بين الأنواع، مفشوخاً بين نص مدور وآخر مقطّع، وسنضطر أنا والروائي لإنزاله عن الصليب.

تتكدس قلوب حبي في عمود جانبي على شاشتها، تنز فوق بعضها، يتداخل الأحمر بالأحمر، يصبغ ابهامها حين تلامسه بالخطأ. تنزعج أحياناً من كثرة قلوبي، بكل قسوة تفرغ الحجرات من أي أثر لها، تأخذ حتى وسادتها التي تحججت بها لتفادي قضاء الليل معي. كم حاولتُ اغلاق الصمامات حتى تضل حبيسة. احتجت بمشهد درامي، بل وهددت بإلقاء نفسها من على الشرفة الثانية لـ "التاجي". قطّعت شراييني، الوغدة المتوحشة، حتى النبض جعلته يسري تائهاً إلى صفحات الغرباء.

أرسل لها قصيدة أو أغنية أعجبتني وذكرتني بها. أقرأ كلمات الأغنية بأذني أولاً، ثم أبحث عنها على غوغل أو في تعليقات يوتيوب لأقرأها كسطور. أحرص على أن تكون الأغنية خاصة بها، عنها، عننا، عن المفقود، الممكن. أحياناً ترد، بتملل، كمن يبحث عن نهاية. كل الترجي في أغنياتي الشرقية لا يرف فيها جفن. الدخلة الموسيقية - التي هي سجادة الأغنية – تقطعها في لحظة. حتى الموال، ذاك الحجر الذي يحرك جوف البحيرة، تثب فوقه في خطوة. الوجع الذي يصعد سلالم الروح ويسري إلى أنامل العوّاد، الكمنجاتي الذي سلّم رقبته إلى مقصلة الفراق، عازف القانون وهو يداعب الفراشات التي نبتت ليلة البارحة في بطن عاشق جديد. كلهم تتصفحهم في كوبليه او اثنين قبل أن تغلق النافذة في فم المطربة المشرّع.

تشعرني بالحرج، بالثقل. أقترح أن نلتقي، أقدم دعوتي بصوت هادئ، حتى ان رفضت – كالعادة – يكون باستطاعتي تقبل جفائها بروح رياضية. كانت حين تأتي تقضي أياماً عندي، تأكل وتدخن وتصنع فوضى فيها أغلب ذكرياتنا. كانت تحضر دائماً في الأفراح والوداعات، وبشكل أقل في الجنازات. وفي الأسابيع الأولى من كل حب، رغم أنها تغار من عشاقي الجدد، إلا أنها تعلم أنهم طارئون.
 


والهة

عند المدخل، وقفت امرأة لوط وقد سخطها الفنان إلى شكل أقسى مما فعل الرب. لم يحافظ على جسدها الملحي، بل رممها بالبرونز لتظل حبيسة الأزلية. ليس بإمكانها زيارة جيرانها لتخبرهم عن زوارها الجدد، حتى عتبة الغاليري لا يمكن لها تجاوزها. ساكنة محنطة، تسمع الحوارات العابرة وترصد الوجوه بعينين فارغتين من التشويق. تمر من أمامها أجناس شتى كل يوم: جن وإنس وملائكة وأنبياء. كانت في حياة سابقة تّتّلوى إن اضطرت للحفاظ على حكايا الغرباء في بطنها، تدور في الحي تستفرغها واحدة تلو الأخرى.

الآن لم تعد تشكل خطراً على الأسرار. الآن، تدفع والهة ثمن حنينها السريع، ثمن شغفها بالماضي، الذي اضطرها لإلقاء نظرة أخيرة على سدوم. في نظرة، بالكاد سجلت ألوان حياتها، بالكاد حبست رائحة الصباح قبل أن تضيع مع الجغرافيا، بالكاد ابتلعت لغة ستنتهي أحلامها بانتفائها. في النقطة الحدودية، ليس مسموح للمهاجر أن يشغل نفسه بأي شيء سوى اللحظة الراهنة. قالوا إنها بالتفاتتها فضحت هوية الرب. أو أنها في أعماقها آمنت بأن سدوم بريئة، بأن سدوم لا تستحق أن تدك هكذا حتى الرماد.

ربما لو انتظرت والهة حتى وصلت إلى الكهف قبل أن تترك للحنين أن يغمرها، لذهبت قصة الكونية في اتجاه آخر تماماً. بل لربما انتهت في ذاك الكهف واسترحنا. لما لم يتفهم الرب أنها أرادت فقط ما يكفي لكتابة قصيدة أطلال؟ هل لأن الطلل حصر على الرجال؟

صغيرة تبدو فوق المكعب، رأسها كما جنين لا موهبة له في الصراخ. جردها الفنان من ذراعيها ورجليها. لربما خاف الفنان أن تهرب امرأة لوط من الغاليري وتعود مرة أخرى إلى العالم السفلي.