كم هو حزين هذا المساء.
الرصاص يدوي منذ المغرب. المقاتلون يودعون بيروت. كل على طريقته.
والكل بالرصاص. مئات منهم هائمة على وجهها في الشوارع. ارتدوا البزات الجديدة تمهيدًا للمغادرة. يطلقون النار بلا هدف. احتجاجًا، غضبًا، تحسرًا، وربما أيضًا حتى لا تقع الذخيرة في قبضة العدو.
الأحد٢٢آب
اليوم الثاني للهجرة الفلسطينية.
على الغذاء عند الصديق الرسام. كان مستغرقًا في مائياته عن الطبيعة عندما دهمته الحرب. قتمت ألوانه، وهو سيّد من استخدم الضوء والنور. وتكسرت خطوطه. وطائره الأسطوري الزاهي الألوان، صار أشبه بغراب، وانقلب على ظهره.
مقابل المرسم شقة يسكنها مهجرون. (لبنانيون أم فلسطينيون؟ من يستطيع أن يميِّز؟ جنوبيون، بقاعيون، من يدري؟ وما هَمّ؟). أمٌ لا تتجاوز الثمانية عشر من العمر، ذات ثوب أصفر، تلاعب طفلتها: الجمال الهادئ، الثقة بالنفس التي تفصح عنها ملامح الوجه، القامة الممشوقة والبطن المكوّرة العامرة.
الحرب تزيد نساءنا جمالًا.
عندنا في الجنوب، تنادي المرأة زوجها: «يا سَكَني». أدعو إلى أن نعكس الآية. في وطن المحرومين من أرضهم والمحرومين في أرضهم، في وطن المهاجرين والمهجرين، المرأة هي السكن. والمرأة هي الوطن.
ومن مرسم الصديق الرسام إلى فندق الصديق الشاعر:
-ماذافعلتيومالأمس؟
ويجيب: لا شيء. قبعت في غرفتي وبكيت.
لا يريد أن يغادر مع المقاتلين:
-أنا شاعر. لست مقاتلًا.
ويسأل: وأنت ماذا ستفعل؟ هل ستغادر أيضًا؟
-ولماذا أغادر؟ هذا بلدي. وأنا باق.
-تنزلون «تحت الأرض»؟
-الأرجح. هذا ما نعد له من أسابيع.
وفي حلقة من الأصدقاء: من يغادر ومتى؟ ومن يبقى؟ وتساؤلات: ماذالونجحفيانتخابيومالغد؟
الإثنين ٢٣ آب
اليوم الثالث للهجرة الفلسطينية الجديدة.
ساعة في الجامعة العربية لوداع المقاتلين. لست تدري في عرس أنت أم في مأتم. حلقات الدبكة تختلط بحلقات النساء النائحات النادبات. ووجوه تتعاقب عليها أمارات الفرح والغمّ. وعلى هذا الجمع الأخضر الخاكي، الموشى بالأعلام الفلسطينية واللبنانية وبصور أبي عمار وجورج حبش وكمال جنبلاط وماركس وإنغلز، ينهمر العطر والأرز والورود مثلما تنهمر الطلقات الفارغة المتطايرة من مختلف الأسلحة.
وتخرج الشاحنات من بوابة الملعب البلدي. تشق طريقها بصعوبة وسط هذا الجمع الكثيف. وهذه الأمواج من الناس، تفرقها بالأيدي المصافِحة الملوِّحة، المعانقة، ثم تلفظها واحدة واحدة. ومع كل شاحنة تنفلت من هذا الجمع، يدوي الهتاف والصراخ، يدوي الانفجار العظيم لمضادات الطائرات تقفز عن الأرض مع كل رشقة، مثل حيوانات أسطورية من حديد، تبصق اللهب.
والمقاتلون الراحلون ينسلخون، رويدًا رويدًا، عن الأيدي المصافحة، الملوحة، المعانقة. ينسلخون عن العناق. ينسلخون عن الوداعات. عن الأدعية. عن الوعود. عن العهود. ينسلخون القبلات. عن هذا الركام العظيم. عن الأطفال والزوجات والحبيبات والأمهات ينسلخون. ويسلخون معهم القلوب.
ويسيطر عليك شعور غريب. وطلقات النار توقع نبضك بوَقْع سحري. ويمتلكك مزيج فريد من غضب ونشوة، من حزن وفخر، من تفجّع وكبرياء. ويشد أبو (...) بعصبية على يدك. وتشد أنت بدورك على يده، حتى لا تطفر الدمعة. تصافح. تحيي. تعانق. ترفع شارات النصر. وعندما لا تكفي، تلوح بقبضة التصميم والغضب.
والمقاتلون الراحلون ينسلخون عن هذا الجمع ويغادرون. لم يكن لهم وطن. ابتنوا هنا شبه وطن. (وما استوطنوه، وما ملكوه، ولكن شُبِّه لهم…). وها هم يغادرون. يحملون وطنهم معهم: في دموع النساء. في عيون الأطفال. في الجعب والحقائب. في بزّات الخاكي. في الجراح والندوب… في الجيوب. وفي الكوفيات والبنادق.
والمقاتلون الراحلون يحملون وطنهم ويغادرون. يطوون هذا الوطن المؤقت، مثلما تطوى الخيمة. كانت بيروت «خيمتهم الوحيدة»، فصارت «خيمتهم الأخيرة».
ولكنها تبقى «نجمتهم».
والمقاتلون الراحلون يودّعون بيروت. تقول يافطاتهم «قبلة لبيروت!» وتودّعهم بيروت. تقول يافطاتها: «سمّوا أولادكم بيروت».
والمقاتلون الراحلون يحملون وطنهم على ظهورهم ويغادرون. محرومون من وطن، استوطنوا الشجاعة.
وستكون الشجاعة وطنهم إلى أن يصير لهم وطن.
