من محاولة لتذكر وجهي

Salma El Tarzi

Artwork by Salma El Tarzi

لما يولي كبرت قوي في السن وجاتلها جلطة كنت لوحدي تماماً، أخويا، الميت الحي، ماكنتش أعرفله طريق، أبويا كان سابنا وهاجر وعمي أصلاً مهاجر بقاله ٣٠ سنة، كانوا شايفين إن الموت سنة الحياة فمفيش داعي يعطلوا حياتهم عشان يقعدوا يستنوا امهم تموت.. وأنا لوحدي.. معاها. يولي ما ماتتش بسهولة،  كانت متمسكة بالحياة وده خلى عملية موتها عملية بطيئة جداً ومنهكة، كل يوم كان جزء منها بيموت لكن بقيت الأجزاء رافضة تستسلم، وكنت عايزاها تستسلم، كنت بدأت أتعب، أتعب من المسؤولية والممرضات والدكاترة ونوبات الهياج ونوبات التوهان، من وحدتي في مواجهة الموت أو  بمعنى أصح انتظاره بفارغ الصبر، وحدتي في مواجهة وحدتها، وجودنا مع بعض ما كانش بيقلل حدة الوحدة، بالعكس كل واحدة فينا كانت مرايا لوحدة التانية. كان في لحظات كنت بأحس إني بأكرهها.. هي كانت ماسكة في الحياة بس كانت بتموتني أنا (وقتها مكنتش لسة فكرت في الموت كحل عملي للتغلب على الملل) .

فاكرة إني ساعات كنت بأقعد جنبها في الفترة اللي بين شيفتات الممرضات، كانت بتبقى نايمة، نص ميتة، موتها كان له ريحة، ريحة مسكرة شبه ريحة الورد المعفن،  فكرت جدياً أكتر من مرة في إمكانية إني أكتم نفسها بالمخدة. ما كنتش حاسة تجاهها بالشفقة، يولي أصلاً مش الشخصية اللي ممكن حد يشفق عليها وأشك إنها كانت هتقبل بده. كان عندي غضب شديد تجاه تمسكها بالحياة، كنت شايفة إنها في قمة الأنانية، وده ما كانش مدهش في حد ذاته، يولي كانت أنانية، حتى في حبها لينا. تمسكها بالحياة كان غير مفهوم أو مبرر بالنسبة لي، ليه عايزة تعيش؟ وإيه هي حياتها؟ بتصحي عشان تنام عشان تصحى، الموت هو الشيء الوحيد اللي ممكن تتطلع له في سن التسعين، الحياة مش جميلة في سن التسعين. 

في لحظة صفا نادرة مابين نوبات الغيبوبة والصحيان طلبت مني أجيب صورتها اللي متعلقة على الحيطة وأجي أقعد جنبها في السرير. ريحة الورد المعفن كانت هتموتني بس استحملت. كانت الصورة مبهرة، جدتي في الثلاثينات من عمرها. كانت جميلة والصورة شبه صور نجمات هوليوود في الأربعينات. مسكتها وقعدت تبصلها كتير، أظن إنها حسست عليها أكتر من مرة، كأنها بتتأكد من حاجة، بصتلي وفي عينيها نظرة هي بين الحيرة والجنون.. وهمستلي لي بانبهار حقيقي: بصي رقبتي كانت طويلة إزاي؟ بصيت للصورة، رقبتها كانت فعلاً طويلة.. قعدت أتفرج على جدتي وهي بتتفرج على نفسها من 60 سنة بتركيز عميق، كانت هدنة لطيفة من معركة الوحدة المتبادلة .. الموضوع بالنسبة لها كان أكبر من مجرد نوستالجيا سخيفة، دي كانت أزمة هوية، هي اللي في الصورة مش اللي في السرير. ومكانتش قادرة تفهم هي إزاي صحيت من النوم لقت نفسها محبوسة في جسم ميت لعجوز عندها ٩٢ سنة.. عمرها في الصورة كان قد عمري وأنا جنبها على السرير مستنياها تموت.

لحد اللحظة دي عمري ما كنت فكرت فيها كشخص، دايماً كانت بالنسبة لي الجدة المزعجة، عمري ما فكرت فيها كست، بالرغم من إنه كان دايماً عندها حكايات عن ماضي أسطوري بيتمحور حوالين جمالها. أوضة نومها كانت أكتر مكان مسلي بالنسبة لي وأنا صغيرة قوي، كانت تسريحتها مليانة اكسسوارات وماكياج وبودرة وبرفانات، أظن البودرة كانت أكتر حاجة مبهرة بالنسبة لي لسبب ما، مشهد جدتي وهي قاعدة قدام المرايا بتحط بودرة على وشها من علبة خزف لونها بمبي مرسوم عليها ورد صغير كان فيه حاجة ساحرة بالنسبة لي، كان تجسيد للمفهوم الكلاسيكي للأنوثة اللي أمي كانت متمردة عليه. بشكل عام كانت أغلب خلافات أمي ويولي بتدور حوالين مفهوم الأنوثة  فيما يخصني، "بنات الناس الcomme il faut، دي ترجمتها "الناس اللي كما يجب" بمعنى بنات الناس المحترمين، كانت يولي دايماً منهارة من إني مبهدلة، شعري قصير وكيرلي، منكوش يعني، وما بلبسش فساتين ومبحطش فيونكات، الموضوع كان بياخد أبعاد درامية تنتهي بالوصلة المعتادة بتاعة إن الغلطة غلطة أبويا اللي سايب أمي تبهدلني كدة وشكلي يبقى عامل زي المتشردين.

كل مرة كنت بأبات فيها عند يولي كانت بتحاول تفرد شعري بالعافية، طاقية دبابيس، سيشوار، مكواة، كريم لفرد الشعر، شامبو بالأمونيا، فاكرة ملمس القيشاني البارد على وشي وهي مثبتة رقبتي بالقوة على طرف الحوض علشان تنفذ عملية إنقاذ شعري، فاكرة ريحة الشياط ولسعة فروة شعري، وفاكرة الوصلة البكائية عن حظها الأسود إن حفيدتها تبقى منكوشة زي الشراميط الزنوج. أيوة، كانت بتقول الشراميط الزنوج لكن بالفرنساوي زي الناس الشيك. أظن إن يولي هي أول من عرفني بمفهوم القهر. المشكلة كانت مركبة جداً، يولي إيطالية وأمي جدتها أثيوبية، وكان رعب يولي إن أحفادها يطلعوا قرود سود على حد تعبيرها، لكن لحسن الحظ طلعنا بيض بعيون ملونة، أخويا كان حظه أفضل عشان طلع أشقر وشعره ناعم، بس أنا طلع شعري كيرلي زي شعر أمي وده كان عار يولي كانت مصممة إنها تمحيه. لكن موقف يولي من الشعر الكيرلي إتغير ١٨٠ درجة في منتصف التسعينات، لما أبويا أشترالها دش وريسيفر وبقت تتفرج على قنوات القمر الأوروبي، كان برنامجها المفضل هو برنامج منوعات على القناة الايطالي، مقدمته مزة شقراء ممشوقة القوام وياللعجب، شعرها كيرلي. فجأة أصبح الشعر الكيرلي دليل على مواكبتي لأحدث صيحات الموضة البيضاء وتحول هم يولي من فرد شعري لإنقاص وزني، لكن الحق يقال، ده كان مشروع مشترك بين كل نساء العيلة - وان اختلفت اساليبهم - هدفه انقاذ سيلف استيمي عن طريق تحطيمه تماماً.

 أنا مقدرتش أكتم نفسك بالمخدة، مقدرتش، يمكن السبب هو صوت نفسك، كنتي بتتنفسي من بقك، كأن روحك بتطلع مع كل زفير بس بتلحقي تشفطي طرفها بسرعة مع الشهيق اللي بعده، بين كل شهيق وزفير كان في صوت طرقعة خفيفة من مناخيرك، شبه طرقعة بالونة لبانة صغيرة بنتفرقع، فكرت إن الطرقعة دي هي صوت روحك وهي بتحاول بتخرج قبل ما تشديها بسرعة لجوة تاني،

 لكن  الحقيقة مش نفسك بس هو اللي منعني، يمكن السبب الأقوى كان نقشات قمصان نومك، ورد صغير وقلوب، بمبي واصفر ولبني، الكونتراست بين الورد المنمنم على كم القميص وكرمشة جلدك كان بيشل دماغي.

 لما بأفكر في البديل اللي أخترتهولك، اخترتهولنا، بأدرك حجم الورطة اللي ورطتنا فيها، كان لازم أجمد ومخليش شوية ورد بمبي ولبني على قطن لينو يمنعوني، كنت هكتم نفسك وإنت نايمة، مكنتيش هتحسي، مكنتيش هتعرفي حتى إنك متّي، بس بدل ما أعمل كدة، يمكن من باب الجبن أو تحت وهم الرحمة أعلنت إنتهاء تاريخ صلاحيتك، ونفضت إيدي ومشيت.

في اليوم الأخير، وإحنا في العربية بنبعد عن البيت اللي عيشتي فيه ٦٠ سنة، البيت اللي عمرك ما هترجعيله تاني، اتدورتي وبصتيلي وقولتيلي ببساطة Salma‪, J‪'ai peur، سلمى، أنا خايفة.. قولتيها بهدوء، باستسلام، والمفجع أكتر.. من غير أي لوم، أخيراً بعد 30 سنة، كسرتك، وغالباً كسرت قلبي معاكي.

 قَعَدّتِك على طرف السرير المعدن وأنا بأفتح الشنطة وبأرتب حاجتك في الدولاب.. أوضتك الجديدة  لونها رمادي، كل حاجة في الدير ده لونها رمادي، حتى لبس الراهبات.. الأوضة تقريباً 3 3X متر، في شباك طويل عليه قضبان حديد في وش الباب، الشباك بيطل على جرس الكنيسة، السرير جنب الشباك عمودي على الحيطة اللي فيها الباب، وجنب الباب الدولاب الصغير، الحيطة اللي في وش السرير فاضية متعلق في نصها صليب كبير مصلوب عليه مسيح مش مفهوم إذا كانت ملامح وشه المشوهة دي تعبير عن العذاب فوق الخيالي اللي بيتعذبه من أجلنا ولا ركاكة النحات، تحت الصليب بالضبط ترابيزة صغيرة وكرسي معدن، الترابيزة عليها مفرش مشمع أبيض عليه ورد صغير، ورد تاني، ورد احمر، الورد بيطاردني.

فوق الباب بالضبط لمبة نيون كبيرة بتزن، هي مصدر الإضاءة الوحيد في الأوضة، ولأن الشباك مبيدخلش شمس مباشرة فحتى ضوء النهار بارد شبه ضوء اللمبة النيون. الشنطة كان فيها قمصان نوم، غيارات، روب، شرابات، فوط، شبشب، مكنش فيها هدوم خروج، إنتي مش هتروحي أي حتة تاني أبداً، اللي باقي من حياتك هتقضيه في الأوضة الرمادي، نايمة على ضهرك بتبصي على السقف - اللي فيه مروحة بالمناسبة - يا ترى عديتي كام لفة؟

لإضفاء بعض البهجة على أيامك التعيسة الباقية  أو بمعنى أصح عشان تفضلي فاكرة إنتي هنا ليه،الراهبة هتاخدك جنينة الدير كل كام يوم تقعدي مع زمايلك المحكوم عليهم بالانتظار تستنوا الموت سوا. دار المسنين مكان شرير، عامل زي مقبرة السيارات، مستودع للبني آدمين اللي بقوا غير صالحين للاستخدام، وكله كوم وابتسامة السماحة اللي على وش الراهبات كوم تاني، صوتهم الواطي وحركتهم الأقرب للطفو، تسامح الراهبات هو قمة السادية والتعالي الأخلاقي، بيفكرك طول الوقت أد إيه إنت انسان زبالة، واطي، مش قادر تاخد بالك من جدتك الكام يوم اللي فاضلينلها من عمرها.. إنت انسان أناني، جاحد، مدلل، ضعيف.. بس هم متفهمات ومسامحينك على ضعفك.

جنينة الدير مهياش جنينة بالضبط، هي ساحة مبلطة فيها كام زرعة في قصرية وملايانة كراسي بعجل مبدورة بعشوائية في المكان، النزلاء على الكراسي "محطوطين" في كل اتجاه، مفيش لزوم لإن الكراسي تواجه بعضها، فالنزلاء شاغلي الكراسي مش بيكلموا بعض، غالباً لأنهم بعد العمر ده كله خلاص قالوا كل الكلام ومفيش أي معنى لتكوين صداقات جديدة، كلهم ساكتين، باصين في الفراغ قدامهم أو راسهم مايلة على صدرهم ونايمين.  في وش الساحة حيطة كبيرة احتمال تكون الدليل على إن الدير ده مجرد غطاء لجماعة سرية تقدس الشر. برواز قزاز ضخم جداً جواه مجموعة مهولة من الفراشات المحنطة.

مئات الفراشات بأحجام وألوان متنوعة مرصوصين بنظام هندسي ملتزم يغطي مساحة الحيطة الضخمة، مئات الجثث الملونة كل منها متثبتة في البرواز بدبوس يخترق جسم كل فراشة عشان يثبتها في أرضية البرواز الجوخ.. جوخ أخضر.

في زيارتي الأولى للدير لما الأم العيا أخدتني في جولة تفقدية ووقفتني بفخر قدام مذبحة الفراشات عشان أبدي إعجابي بالـ  collection de papillions rares  (في الفترة دي من حياتي كانت السخافة والفرنساوي بيست فريندز) ، قعدت أحاول أتخيل الوسيلة المستخدمة لقتل الفراشات دي كلها مع الحفاظ على سلامة أجسامها وأجنحتها الهشة، في شيء رهيب في فكرة القتل برقة.



*

في إحدى مواقع محمد محمود العبثية المتعددة، كنا واقفين في شارع فهمي على بعد أمتار من المعركة اللي دايرة على ناصيته مع شارع محمد محمود، الشارع كان ضلمة تماماً، كنا كلنا واقفين في صمت، مكنش في صوت غير صوت القنابل والحجارة المتراشقة بين الطرفين، صوت الحجارة صوت ساحر جداً شبه صوت المطر، ساعات بأتخيل إننا لو كنا نقدر نسمع دقات قلب بعض كان صوت الحجارة ده هيكون صوت دقات قلوبنا، صوت الحجارة كان بيحسسنا بالأمان، مقدرش أتخيل أي حاجة كانت ممكن تكون أكثر رعباً من إن صوت الحجارة يقف فجأة، كأن قلوبنا هي اللي وقفت.

 صوت الحجارة بيتخلله صوت القنابل على فترات شبه متساوية، صوت عريض وجاف وراه صفارة حادة، صوت فيه حاجة قدرية، كأنه صوت نهاية العالم. كنا حوالي 600 أو 700 ، العالم برة الشارعين دول مكانش له أي وجود بالنسبة لنا، إحنا وهم، في اللحظات دي العدو أقرب لينا من أي حد في صفنا بس بعيد عن أرض المعركة، أقرب حتى من الآلاف اللي بتهتف في الميدان على بعد 100 متر بس مننا، إحنا والأعداء كنا كائن واحد، جسم واحد ضخم بيتنفس بإيقاع منتظم وبطيء، الزمن كمان مكانش له وجود، كأننا كنا دايماً هنا وهنفضل هنا للأبد. كنا مسحورين، كنا طايرين، مرتفعين عن الأرض الميليمترات إياها، بنتحرك مع بعض في الكر والفر بإنسيابية ونعومة أعشاب البحر مع حركة الموج، موجة تبعدنا وموجة تشدنا تاني لجوة.

كل فترة أحس بأجسام  بتخبط في كتفي وهي معدية من جنبي باتجاه خط الاشتباك، مجموعات من ٣ أو ٤ ماشيين في طابور ورا بعض وممر بشري بيتفتح قدامهم في سرعة وصمت مع كل خطوة بيخطوها، بيرددوا الشهادة قبل ما يختفوا في عمق المشهد. وشوشهم إللي مشفناهاش في الضلمة غالباً هنحفظها باقي حياتنا، سنانير الشهدا، اسمها سنانير نسبة لبوصة الصيد اللي بيتعلق عليها العلم.

بالرغم من إني مظنش إنهم كانوا بيسعوا للموت، وإن الشهادة اللي سمعتهم بيرددوها كانت غالباً من باب الاحتياط، إن الفرق بيننا هو إنهم كانوا أكثر رومانسية أو أقل حظاً، إلا إني عرفت يومها إني مش عايزة أموت، إنى هأقف دايماً على بعد خطوات من الموت، هأحط نفسي في طريقه عشان أهرب منه لما يقرب قوي، انتصاري هو إني أفضل عايشة، ومكنتش لوحدي، كنا آلاف واقفين على بعد خطوات منه في حالة يوفوريا من جرعة الحياة المكثفة للحظة. إحنا مكناش انتحاريين، إحنا كنا مقامرين، مدمنين قمار، الموت بالنسبة لنا زي الخسارة، بنجازف بيها بس مش بنسعالها وما بتمنعناش من اللعب، بل احتمالها هو اللي بيخلينا نلعب دور ورا دور ورا دور، ومفيش مدمن قمار بيبطل لعب لما يكسب.

في يوم ما قلت للدكتورة بتاعتي إني عارفة ومدركة إن الموت هو أكتر حاجة منطقية بالنسبة لي وإني مش عارفة إيه الحاجة إللي بتمنعني من إني أموت نفسي (ده كان قبل المعضلة المنطقية)، سألتني يعني إنتي مش شايفة حاجة تمنعك إنك تموتي نفسك ولا في حاجة بتمنعك وإنتي مش عارفة هي إيه؟ قلت لها هو ده بالضبط، في حاجة بتمنعني بس مش عارفة هي إيه، قالت لي أنا كمان مش عارفة هي إيه بالضبط، بس اللي أنا متأكدة منه هي إنها مدورة وشفافة.

 لسبب ما اقتنعت جداً بالرد، وبقيت متخيلة الحاجة المدورة الشفافة دي ماشية جنبي طول الوقت، هي شبه فقاعة صابون كبيرة، قد كرة السلة تقريباً، بتطفو جنبي أعلى من مستوى دماغي بشوية، ما بتلمسنيش أبداً بس دايماً موجودة على مسافة ما مني، ساعات تبعد شوية وساعات تقرب، كأنها مربوطة بيا بخيط غير مرئي. يمكن كل حد فينا عنده واحدة ماشية جنبه بس إحنا ما بنشوفهاش عشان ما نعرفش إنها موجودة.

 بأتخيل منظرنا في شارع فهمي الضلمة، واقفين في صمت وفوق دماغ كل واحد فينا بتطفو مدورته الشفافة، ممكن كام واحدة منها تبان لما تعكس أضواء جاية من بعيد، يمكن بتبان كلها فجأة لما قنبلة تتضرب وتعمل شرارة في الهوا تنعكس على كل المدورات الشفافات بألوان قوس قزح وترجع تختفي تاني في الضلمة، يمكن لما حد فينا بيموت مدورته الشفافة بتفرقع ببساطة فقاعة الصابون. إحنا بهشاشة الفقاعات، يمكن إحنا في شارع فهمي كنا مجرد رغاوي صابون، رغاوي في محمد محمود، رغاوي على كوبري قصر النيل، رغاوي شكلها من بعيد كتلة مصمتة ضخمة بس لو دققت فيها تلاقيها كلها فقاقيع هشة.

واحد صاحبي في مرة قال لي إنه لما بيمشي في شارع محمد محمود قلبه بيتقبض، بيحس إن الشارع مسكون بأرواح اللي ماتوا، فكرت في إني بأشاركه نفس الإحساس، قلبي بيتقبض لما بأمشي في محمد محمود، بس مش عشان بأحس إنه مسكون بأرواح اللي ماتوا وإنما عشان بأحس إنه مسكون بأرواحنا إحنا، أشباح أنفسنا في قمة لحظات حياتنا حياة. ساعات بأفكر إن لو الانسان له حصة محددة من الحياة متوزعة على سنين عمره فيمكن إحنا استنفذنا الحصة دي كلها في لحظات الحياة المكثفة اللي كنا بنتعاطاها بجشع، بجنون، استشنقناها، دخناها، شربناها، خدناها حقن، أكلناها، اتمرمغنا فيها لحد ما خلصناها، وكل اللي فاضل لنا دلوقتي هو شوية بخار حياة يمشينا اللي فاضل من عمرنا.

 في الأسطورة عازف الناي بيعزف ألحانه المسحورة فيخرج كل أطفال المدينة ويمشوا وراه لحد ما ينزل بيهم النهر ويغرقهم، إحنا كنا زي الأطفال دول، صوت المعركة بيسحرنا، بنروحلها من غير تفكير، من غير منطق، من غير حسابات مكسب وخسارة، بنتقابل هناك بدون اتفاق، بنحضن بعض بامتنان وفخر الثابتين على مواقفهم، وكأننا مخيرين، بندخل الشارع بصدر مفتوح وخطوة مختالة زي أبطال أفلام الأكشن متجهين نحو خط الاشتباك، مع كل خطوة صوت المعركة بيعلا وبيسكرنا، مع كل خطوة بنفقد احساسنا بالعالم وبندوب في بعض، بنتحول لكتلة واحدة في حالة انتشاء جماعي متجهة بخطى ثابتة نحو معركة مستحيلة، معركة خسرانة، وهو ده سحرها، معركة رومانسية، معركة مثاليات الحق، نشوة تحدي السلطة المطلقة باللاشيء على الإطلاق، المضي بخطى ثابته نحو موت شبه مؤكد وتفاديه في آخر لحظة ممكنة، استنشاق جرعة حياة مكثفة.