عودة الأبناء غير الضالين

Hoda Barakat

Artwork by Vladimír Holina

إلى جوزيف سماحه

لسنا نشكِّل جماعة، نحن الذين بقينا خارج البلاد. لا نتشابه، ولا تشدّنا أيّة روابط. قلّما نلتقي، وإذا حصل ذلك لصدفة ما، فسرعان ما نفترق ونتفرّق على إشارات من أيدينا بالتهاتف قريبًا. ذلك بعد أن صرنا نُعفي بعضنا بعضًا من العتاب الكاذب. نفترق ونتفرّق بسرعة، ويداخلنا الجذل في التخفّف من لحظة ثقيلة، معترضة في سياق حياة تسيل وتجري كالنهر الهادئ. لحظة تزداد ثقلًا حين يكون اجتماعنا لشأن لبنانيّ، كأن نحضر فيلمًا أو ندوة عن بيروت، أو ما شابه، ممّا يستدعي الحضور مؤازرة أو مؤاساة أو حرجّا. وكنّا في السابق، كغيرنا من المهاجرين، نتلكّأ عند المداخل وفي الممرّات، ثم نجد في مقهى قريب فرصة للسؤال عن الأحوال والكلام عن حاضر البلاد، وأحيانًا، للنقاش الحادّ.

لا نشكل جماعة ولا نحبّ تشابهنا أو ما يذكِّر به. نفضّل الذوبان في أيّ مشهد عامّ اتّفق وجودنا فيه. وصار يكثر في تجمّعاتنا النادرة اصطحابنا لرفاق فرنسيّين (مثلًا)، نحدّثهم حول أشياء محايدة، مثلما بتنا نفعلمع أولادنا تاركين لهم أن يختاروا أماكنهم دون تدخّل منا أو إلحاح يشدّهم إلى بلاد لم نعد نعرف ما يشدّنا إليها. حتى ذلك الجهد الصغير الذي كنّا نصرفه في إيضاح الفرق بين التبّولة اللبنانية وسلطة الكسكس التي يسمّونها "تابولي" مبتعدين عن إيضاحات أكثر تعقيدًا عن بلادنا... حتى ذلك الجهد انصرفنا عنه ضجرًا.

نفترق ونتفرّق بخفّة إلى بيوتنا بعد أن نشاهد أو نسمع عن بيروت، لنحتفظ لأنفسنا بما نريد. لا نعلّق على جدران بيوتنا صورًا أو ملصقات مثل تلك التي تمثّل ساحة البرج أو بحر الروشة، والتي تُباع بكثرة في البلاد، مع أنّنا حملناها معنا من آخر رحلة، أو حملها إلينا أحد القادمين. نضعها في الخزائن والأدراج احتياطًا، كغرض ربّما احتجنا إليه يومًا لاستعمال لا نتبيّنه الآن. ليس في بيوتنا هنا ما كان لها هناك ممّا يدل على انتمائنا إلى بلاد ما، ومحبّتنا لذلك الإنتماء، كأنّ الحياد وسلامة جريان الوقت هو كلّ ما نبتغيه، ويؤاتينا هذا الطقس الرماديّ دائمًا.

لسنا نشكّل جماعة لا من قريب ولا من بعيد. فالذين كانوا أصحابًا ورفاقًا لنا في البلاد هم الآن أكثر من يدعوننا إلى النفور والإبتعاد السريع، كمن يلتقي شريكًا قديمًا في إثم لم ينكشف وهو يفضّل نسيان وقائعه، أو كمن يلتقي عشيقًا كان حبيبًا غاليًا في ما مضى، ولم يعد في الحاضر متّسع لحضوره أو ... لغيابه. أمّا الآخرون، الآتون من الحاضر، فهم على مسافة منِّا بعيدة إلى درجة أن فكرة ردمها تبدو عبثًا خالصًا. وداخل بيوتنا، كما خارجها، صرنا أكثر ميلًا إلى التكلّم بالأجنبيّة ولسماعها، محاولين تجنّب ذلك الإيقاع الذي غادرناه، والذي لم نعد نتلهّف للقاء القادمين منه. لم نعد نسأل القادمين شيئًا، وصرنا نرتبك ساخرين في دواخلنا ممّن يبدو منهم مزهوًا وهو يقدّم البقلاوة والكشك هدّية جرجرها في المطارات، وهي هنا متوافرة طازجة... ولا نشتريها.

لسنا جماعة، ولا أصدقاء لنا قدامى نحتفي بهم، أو جددًا نرتاح إليهم. وهؤلاء القليلون الذين نخاف عليهم من الهواء، وتهلِّل قلوبنا حين نتعرّف من بعيد على هيئاتهم، ويغشانا الخجل إذ نراهم يوغلون في العمر وهشاشة الأجساد... هؤلاء هم منتهى عجزنا عن الكلام، كمن قد يلقي نفسه في مصارحة علنيّة بغرام آثم غير مشروع، على مسرح مضاء بقوّة. وكأنّنا، في سرّنا، نريد أن نعفيهم من ثقل طاقة لهم على حمله، ومن همّ لا نريد أن نضيفه إلى همومهم، مفترضين فيهم ما فينا من الضعف وسرعة العطب، ومن الرغبة في الهروب والتملّص. نرى فيهم أهلنا البعيدين هناك... الذين نعلي الأصوات بالصراخ دونما داع حين نكلّمهم في الهاتف كي نفرغ الكلام من معانيه الحارقة، وكي نجنّبهم قسوة تضاف إلى قسوة ابتعادنا عنهم آلاف الكيلومترات، ولكي ننسي- ونحن نفتعل الضجيج- أنهم سيموتون بعد حين، بين اتّصال وآخر لا محالة... ونحن هنا.

لسنا جماعة، لكن خيطًا واهيًا يتسلّل فيما بيننا، ويشدّنا قليلًا إلى بعضنا حين نعرف أن أحدًا منّا سيعود إلى البلاد. نخجل من تسمية بعض ما نشعر به بالخيانة، ونقلّل النظر مباشرة في عيون بعضنا البعض. لا نسمّي بعض ما نشعر به وحشة، أو موتًا أولًا سوف يليه ذلك الذي سوف يليه، في بلاد لم ينجح أهلها يومًا في لفظ أسمائنا، ونعرف أننا سوف نهجّي الكلام كثيرًا، وسنرفع الصوت عاليًا، صراخًا، على الهاتف، كي لا نقول شيئًا البتّة لذلك الذي عاد.
نتكلم في ما عساه يكون خيرًا للعائدين، ونستغرق في تفاصيل شروط عيش كريم لهم، وندّعي فوضويّة تخالطها اللامبالاة. ثم نصدّق لامبالاتنا ونعتني بها. لامبالاتنا لا نسياننا، يخفّ شعورنا بالخيانة والتخلّي، ونفكّر أن مَن يعد ينضمّ هناك إلى مَن يفضّل النسيان، إلى مَن بقي ونسي. ونحن هنا نشحب ونتضاءل ونغذّي لؤمنا وأحقادنا الدفينة. لسنا جماعة، ولكننا صرنا نعرف أن هؤلاء الذين لم يغادروا بيروت كهؤلاء الذين عادوا إليها، هم بالضرورة أصحاب النسيان والغفران اللذين نحن موقوفون دونهما، دون النعمة... يشاهدون الفصول تتعاقب، والشوارع تتغيّر ملامحها، والجارات يعجزن، والأولاد يكبرون، والأهل يوارون الثرى... يقرأون الجرائد، ويعرفون أسماء الزعماء الجدد جميعًا، ويلتقون في المقاهي والدروب، ويشتمون ماهم فيه... وينسون. ونحن نستغرق في البعاد، وفي التذكّر، حتى صرنا ضيوفهم الثقيلي الظلّ: ضيوف المرارة.

نسهر لنودّع من سيعود إلى البلاد. لا نطيل، ولا نكثر الحديث في الموضوع. ونتوجّس من أن يكون ذلك الذي يقتصد ويتكتّم زيادة هو العائد التالي. ونتوجّس من الذي يثني على قرار العودة، ويستفيض بموضوعيّة وحياد يجعلاننا نشكّك عميقًا، ونرى في الكلام مقدّمة لإعلان قريب. ونقرّر أن نتجاهل وألّا نبالي. وقد نزايد ونقول إننا ربما عدنا جميعًا... ونعرف أن لا.

نخرج لنتفرّق إلى ببيوتنا، ونعرف، ونحن عائدون في الليل، أننا صرنا أقلّ: أقلّ مجتمعين، وأقلّ أفرادًا، وأن ما نقبض عليه في دواخلنا بات أكثر ضآلة، وأننا أكثر انكشافًا الآن للهواء البارد وللغة أهل البلاد التي نعيش فيها، وأننا أكثر فقدانًا لعدائّيتنا، أكثر إذعانًا لقوانين السير وقوانين أوراق الإقامة وملحقاتها المضنية، وأن أصواتنا ستكون أكثر خفوتًا ونحن نشتكي من قسوة دوائر الهجرة، وأكثر مهادنة مع أولادنا المستغرقين مع أصحابهم الأجانب في نسياننا وفي الهزء من الأغاني "الأنينيّة" التي يعنّ على بالنا أحيانًا أن نسمعها وحدنا في بيوتنا، ومن مغنّين يعتقدون أنهم ماتوا منذ قرون. نعرف أننا، بعد عودة مَن يعود، سنزداد كرهًا للبلاد التي كرهتنا، قيما قرّر هو أن يحبّها من جديد.

نفترق ونتفرّق في الليل بإشارات من أيدينا نتعاهد بها على التهاتف قريبًا. نتفحّص قبّة السماء، ونحن نتدثّر بمعاطفنا السميكة والخريف مازال بعيدًا. نعيد النظر إلى السماء لأنها المسافة الوحيدة التي تصلنا بتلك التي مازالت مشرقة، والتي ستدلّي طائرتنا بحبال رفقها. ونبتسم هزءًا، وتعجبنا جدران بئرنا النظيفة من كلّ الحبال... وتأخذنا عليها شفقة خفيفة.

قال الكاتب الإنكليزي القديم هوغو أوف سانت فيكتور (وكان أرستقراطيًا وقائدًا عسكريًا مرذولًا لأنه فرّ بفيلقه كاملًا من أرض المعركة): "إن مَن يعطي أرض مولده كلّ حبّ قلبه ليس سوى فتى غرير طري العود. ومَن يعزّ كل الأوطان معزّته لوطنه هو الرجل البالغ القويّ. لكن الرجل القدير المكتمل الحكمة هو ذلك الذي يرى أن العالم كلّه ليس سوى أرض منسيّة... فطريّ العود يضع كلّ حبّه في مكان واحد، والراشد القويّ يوزّع حبّه على كلّ الأمكنة، أما الحكيم سيّد نفسه فهو مَن رأى أن كلّ ذلك الحبّ ينقضي ويزول".

وقال الربّ للوط: "سأجعل عاليها أسفلها، وأمطرها بوابل من نار وكبريت. إمْض، ولا تلتفت إلى الوراء، وكلّ من فعل حوّلته تمثالًا من مَلح".

تمارين إنكليزية لسيادة النفس والحكمة.
كلّ ذلك الكبريت... كلّ ذلك الملح الهارب، الماضي في ركضه.

دقّة مكيانيكا العبث...